الأسماك المملحة.. تراثٌ غذائي بين إغراء التقاليد والمخاطر الصحية والبيئية

بقلم الدكتور خالد شوقي

استاذ ورئيس بحوث صحة وسلامة الأغذية –  المعمل المرجعي لصحة وسلامة الاغذية ذات الاصل الحيواني –   معهـــــد بحــــوث الصحـــــــة الحيوانيـــــــة – مركز البحوث الزراعية

مع حلول فصل الربيع واقتراب احتفالات “شم النسيم” تبرز ظاهرة اجتماعية تختزل تاريخًا طويلًا من الموروث الثقافي المصري الا وهي اعداد وتناول الأسماك المملحة مثل “الفسيخ” او”الرنجة” او كليهما في اغلب الاحيان. لكن وراء هذه الممارسة الاحتفالية تكمن تحديات صحية وبيئية جسيمة تتطلب وعيًا مجتمعياً وحلولًا مبتكرة. ففي هذا المقال نستعرض كيف تتم عملية التصنيع والمخاطر التي تحيط بالمستهلك والبيئة وكذلك نتطرق الى بعض الحلول العلمية الممكنة للحد من تلك المخاطر قدر المستطاع.

صناعة الأسماك المملحة: بين الحرفية التقليدية وغياب المعايير

تعتمد صناعة الأسماك المملحة على تقنيات حفظ قديمة تعود لمئات السنين حيث يستخدم الملح بكميات كبيرة او تركيز عالي من خلال استخدام محلول ملحي بغرض منع نمو البكتيريا. وتشمل المراحل الأساسية من التصنيع ما يلي :-

1- التنظيف الأولي: حيث تغسل الأسماك (غالبًا البوري أو الرنجة) وتُترك لتجف لكن قد تُهمل هذه الخطوة في اماكن التصنيع الغير المرخصة او التي لا تتبع المعايير والممارسات الصحية والتصنيعية السليمة مما يترك بقايا دماء أو أحشاء بالمنتج تزيد من معدلات التلوث .

2- التمليح المكثف والتخزين: توضع الأسماك في أوعية خشبية أو بلاستيكية مع طبقات من الملح الخام بين الاسماك وهذا ما يسمي التمليح الجاف اما التمليح الرطب فيتم من خلال استخدام محلول ملحي مركز حوالي 26% من وزن السمك وتعتبر هذه الطريقة اسرع من التمليح الجاف وتترك لأسابيع واذا تم التخزين في ظروف صحية سيئة (اواني وادوات ملوثة – نقص التهوية – التعرض للحشرات ملح غير صالح للاستخدام) فقد يشكل ذلك خطورة على صحة المستهلك.

3- عملية التخمر: تتفاعل الإنزيمات مع البكتيريا اللاهوائية مما يُكسب السمك النكهة المميزة لكنه قد يؤدي إلى تكون سموم قاتلة “البوتوليزم” إذا فُقد التحكم في درجة الحرارة أو نسبة الملوحة .

 المخاطر الصحية: من التسمم إلى الأمراض المزمنة

رغم التحذيرات المتكررة تسجل حالات عديدة من التسمم بين المستهلكين لهذه النوعية من الاسماك سنوياً ومن ابرز حالات التسمم:

أ- التسمم البوتيوليني: ينتج عن سموم ميكروب “كلوستريديوم بوتولينوم” التي تهاجم الجهاز العصبي وتسبب شللًا في عضلات التنفس قد يؤد ي في النهاية الى الوفاة اذا لم يتم اتخاذ الاجراءات السريعة خاصة مع استخدام أسماك فاسدة ملوثة بالميكروب أو ملح مغشوش حيث تظهر الاسماك ببطن منتفخ وخياشيم داكنة.

ب- ارتفاع ضغط الدم: تحتوي الأسماك المملحة على نسبة عالية من الصوديوم قد يصل إلى 17% من وزنها مما يهدد مرضى القلب والكلى.

ت- التلوث بالمعادن الثقيلة: كالزئبق والرصاص خاصة إن كان مصدر الأسماك من مياه ملوثة من جراء المخلفات الصناعية .

ث- التسمم بالهيستامين: يتشكل في الأسماك اثناء التخمير السيئ مسببًا طفحًا جلديًّا واضطرابات هضمية .

الأضرار البيئية: ملح يقلل من خصوبة الأرض وتلوث المياه

لا تقتصر الأضرار على الصحة فقط فعمليات التصنيع العشوائي تُلحق أراراً بالغة بالبيئة والمسطحات المائية فعلى سبيل المثال:

أ- ارتفاع معدل ملوحة التربة: تصريف المياه المالحة الناتجة عن التمليح في الأراضي الزراعية يقلل من خصوبة التربة مما يحد من مساحات الاراضي المستزرعة وبالتالي تقل الإنتاجية .

ب- تلوث المسطحات المائية: تسرب النفايات ذات الملوحة العالية إلى الأنهار والبحيرات يهدد الكائنات البحرية ويخل بالتوازن البيئي .

ت- استنزاف المخزون السمكي: الإقبال الكبير على صيد الأسماك لتمليحها يرفع معدلات الصيد الجائر خاصة مع استخدام شباك غير انتقائية او طرق غير مصصرح بها.

تطبيق الممارسات آلامنة والمستدامة  

ولتحقيق التوازن بين التقاليد وسلامة المنتج تُقدم الحلول التالية:

أولأ: الجهـــــات الرقابيـــة:  

1- تشديد الرقابة على اماكن التصنيع والتخزين والاطلاع على التراخيص وتطبيق الاشتراطات الصحية والتصنيعية الجيدة كانظافة والتطهير واستخدام ملح مكرر صالح للاستهلاك وأسماك طازجة .

2- تطبيق تقنيات معالجة المياه المالحة قبل تصريفها عن طريق فصل الرواسب واستعادة البروتين .

3- توعية المزارعين بخطورة ري الأراضي الزراعية بمياه بها نسبة ملوحة عالية.

ثـــانيـــاً: المستهلك   

شراء الأسماك من مصادر مرخصة موثوق بها مع فحص علامات الجودة (خياشيم حمراء – عيون لامعة براقة – جلد وقشور متماسكة – لون السمك – الرائحة المميزة للاسماك المملحة) .

تأكد من أن ملمس الأسماك المملحة متماسك وغير لزج أو طري بشكل مبالغ فيه.

يفضل شراء الأسماك المملحة المعبأة والمغلفة بشكل جيد والتي تحمل تاريخ الإنتاج والانتهاء.

تجنب السيدات الحوامل ومن يعاني من الامراض المزمنة من تناول الاسماك المملحة

تجنب تناول رأس وأحشاء السمك لتركُّز السموم فيها وغسلها جيدًا بالخل أو الليمون لتقليل الملح قبل الاستهلاك.

تناول كميات معتدلة من الاسماك المملحة

شرب كميات كبيرة من الماء والسوائل بعد تناول الأسماك المملحة للمساعدة في طرد الأملاح الزائدة.

اضافة أغذية صحية كالخضروات (البصل – الخس – الخيار) والفاكهة (الطماطم – التفاح.

تجنب تناول الأسماك المملحة على معدة فارغة.

إذا شعرت بأي أعراض غير طبيعية بعد تناول الأسماك المملحة (دوخة – دوار – صعوبة في البلع – جفاف الحلق – صعوبة بالنطق – تشوش او ازدواج الرؤية). توجه فورًا إلى الطبيب

عدم الاحتفاظ بالأسماك المملحة خارج الثلاجة لفترة طويلة بل يجب حفظها بالتبريد في عبوات محكمة الغلق

12- استمتع بوجبتك في شم النسيم ولكن بوعي واعتدال للحفاظ على صحتك

ثــــالثــــاً: الحلول التكنولوجية

1- استخدام تقنيات التمليح السريع بالتبريد التي تقلل الوقت والملح المستخدم وتعتبر اكثر امناً على الصحة.

2- تطوير أساليب لتخمر الاسماك تعمل على تحفيز البكتيريا النافعة والقضاء على البكتيريا الضارة .

في نهاية المقال نود ان نشير الى ان هذا الموروث يحتاج إلى إعادة ابتكار فالاسماك المملحة ليست مجرد طبق يقدم في احدى المواسم والاعياد بل يعتبر جزء من الهوية الثقافية المصرية. لكن الحفاظ على هذا التراث بشكل امن لا يشكل خطورة على صحة المستهلك او يؤدي الى تلوث البيئة يتطلب تحديثًا في تطبيق تلك الممارسات بدءًا من تطوير معايير التصنيع مرورًا بتحسين الرقابة ووصولًا إلى تعزيز الوعي المجتمعي لدى المنتجين والمستهلكين.